واحد من أقدم الأوقاف على الإطلاق… أدواته البسيطة كتبت تاريخاً من المجد وروت قصة شعب عشق العلم فأوقف لأجله كل ما يملك، إنه وقف المحضرة فما هي قصته؟ وإلى أين مآله؟
يَراعٌ منْ قَصَبٍ وحِبرٌ منَ الصمغِ ودواةٌ ليستْ إلا إناءً صغيراً محشوًّا بصوفِ الغنم.. يخطُّ بها الأطفالُ حروفَ العِلمِ وأرقامَه لتُنقَشَ في صدورِهم وعقولِهم كالنقشِ على الحجر.. حتى إذا كَبِرَ الجسدُ وتفرَّعتْ دروبُ الحياةِ وطرقاتُها ظلَّتْ مناهلُ العلمِ التي خَبِرَها العقلُ فتياً ثابتةً لا يُعَكِّرُها سهوٌ ولا نسيانٌ..
هكذا تبدأُ رحلةُ العلمِ في المحضرةِ أحدِ أقدمِ الأوقافِ على الإطلاقِ في شَمالِ أفريقيا..
في موريتانيا ما تزالُ المحضرةُ حتى يومِنا هذا تلعبُ الدَورَ الأوليَّ في التعليمِ داخلَ المجتمع، إنها المرحلةُ الأولى التي يتلقَّى فيها الأطفالُ أبجدياتِ العلمِ منَ القرآنِ الكريمِ واللغةِ إلى علومِ الشريعةِ والفِقه.
شَهِدَ وقفُ المحضرةِ انتشاراً واسعاً في كلِ مدنِ البلادِ وقُراها؛ لكونِه المنطلَقَ السليمَ للبناءِ العلميِ لدى الطالب، انتشارُه عائدٌ إلى سهولةِ تنفيذِه، يتشاركُ الناسُ فيه بعفويةٍ فيُوقِفونَ ساحةَ البيتِ فَضاءً له ومَنْ لا يمتلكُ البيتَ يُوقِفُ أغنامَه أو إبلَه أو نخيلَه على طلابِ العلمِ حتى ينتهُوا منْ دراستِهم، الهدفُ منْ ذلكَ كلِه نشرُ العلمِ وتلقينُه للأجيالِ المتعاقبة.
معَ التطورِ التكنولوجيِ في عصرِنا الحديثِ ربما تكونُ العديدُ منْ مظاهرِ الماضي الجميلِ قدِ انقرضتْ، لكنَّ الوقفَ حافظَ على المحضرةِ إلى اليومِ، كصورةٍ لاستمرارِ نشرِ العلمِ ولو على ألواحِ الخشب!
لقد جسد وقف المحضرة قيمة العلم لدى شعوب شمال إفريقيا فكان منهل النور الذي تستقي منه الأجيال غذاء عقولها.