انشغاله بالعلم لم يثنه عن الكد والعمل ليكسب رزقه… لم يكن غنياً ولا لديه كثير مال… بل يحمل بين جنبيه قلباً زاهداً ونفساً عزيزة عفيفة محبة الخير… فأزهر غرسه صرحاً للعلم وآخر للاستشفاء… ووصية عظيمة لأمة الإسلام
لما أتى خبر قدوم عبدالملك النيسابوري إلى بلده نيسابور؛ خرج طلابه إلى الشوارع يرقبون مقدمه، فامتلأت الشوارع بطلابه حتى تكاد لا تجد موضع قدم فيها..
أقبلت القافلة وبين يديها رجل حسن الهيئة، طيب الرائحة، عليه من السكينة والوقار ما لو ان فاجراً رآه لقبل يديه ثم اهتدى..
لم يكن النيسابوري فقيهاً من فقهاء الشافعية فحسب، بل كان متورِّعاً كريماً، يسعى إلى الخير أياً كان، لا يثنيه عن مجالس العلم شيء، لا يُعرف للكبر في صدره مكان، طيب الجوار يحبه من جاوره..
وبالرغم من غزارة علمه واتساع شهرته؛ إلا أنه نذر ألا يأكل من علمه، فكان على انشغاله بالعلم رجلاً همّاماً، امتهن الخياطة فكان يصنع القلانس ويأمر غيره ببيعها كيلا يشتريها الناس إكرماً له..
وعلى الرغم من كونه ليس من أغنياء عصره؛ إلا أنه عندما أتى نيسابور أراد أن يوقف من ماله ما يخدم العلم وأهله، ويكون للمساكين من أهل نيسابور نصيبٌ من الخدمة والفائدة فيه، ففكر واستخار، ثم استقر به الرأي أن يجعل بنيسابور مدرسة لطلاب العلم، وأن يوقف عليها خزانةً من الكتب تكون للطلاب منهلاً يغرفون متى عطشوا إلى معلومة، فلما فرغ من المكتبة عمد إلى ما تبقى من مالٍ فجعل منه داراً للمرضى بها يتطببون ويعيشون، وأوقف عليهما أوقافاً من ماله الخاص..
عاش النيسابوري فقيهاً عاملاً يأكل من كسب يده، وعلى الرغم من كونه ليس من الأثرياء؛ إلا أنه جعل من بناء الأوقاف همّاً يعيش معه حتى توفي سنة 407 للهجرة، وكأنه يترك دعوة للمسلمين من بعده أن أوقفوا ما استطعتم، فإنما تحيا الأمة بأوقافها…
ولم يتوقف نفعه للأمة بما بذله من طلب العلم ونشره في حياته فقط، فاستمر بعد وفاته على مدى قرون…