في كل حي مكتبة… وفي كل قرية دار للكتب!… هكذا كانت بغداد في بداية العصر العباسي مقصداً للكتاب والأدباء ينشرون فيها إصداراتهم وما خطته أيديهم… فكيف انتشرت المكتبات في حاضرة الخلافة الإسلامية في ذلك الوقت؟! أتى على بغداد بداية العصر العباسي مئاتٌ إن لم يكن ألوف من طلاب العلم، فكنت لا ترى في المدينة آنذاك إلا طوابير من الشباب على أبواب المكتبات ودور النشر لشراء الكتب، أو صفوفاً من الطلاب تنثني ركبهم عند باب المسجد يسمعون عن الشيوخ والعلماء.. وكان مرجع ذلك أنه لما استقر الحكم لبني العباس وأصبحت بغداد حاضرة الأمم قاطبة؛ سالت على المدينة أنهار من العلماء، وأُغرقت المدينة بالكتب الأدبية والعلمية، التجريبية منها والشرعية، فلا تجد أديباً إلا واستقر ببغداد أو قريباً منها بغية نشر آدابه، ولا يصدر كتابٌ إلا وتباعُ أول نسخة منه في بغداد… ولما رأى العلماء وأشراف المدينة ذلك، عكفوا على تنظيم الكتب حتى يتسنى للناس عامةً ولأهل العلم خاصة مراجعتها والاستفادة منها، فأخذوا يتسابقون بإقامة المكاتب وإيقافها، فلا تكاد تجد عالماً أو أديباً، غنياً كان أو فقيراً إلا وأوقف مكتبة أو جعل من كتبه وقفاً لمكتبة في بغداد.. فهذا ابن المارستانية الطبيب المعروف في درب الشاكرية، أوقف مكتبة لطلاب العلم، ثم أتى الخطيب البغدادي وهو المؤرخ المشهور فأثراها بكتبه قبل وفاته.. وقد وصل الأمر أن امتلأت بغداد بالمكتبات حتى لا تكاد تجد حياً فيها أو قرية على أطرافها إلا ومكتبة موقفة فيها على طلاب العلم.. هذا هو الوقف وهذه هي إسهاماته في إثراء دور العلم ووسائل المعارف… مئاتٌ بل آلافٌ من المكتبات الموقوفة؛ صنعت للأمة حضارتها، وبنت لبغداد تاريخها، ليفنى بعد ذلكَ الواقف ويبقى الموقوف شاهداً على صناعة المكتبات الوقفية للحضارة الإسلامية.. |