قدور ورحى ومنحاز… حتى سم للذئاب!… وطعام حمام الحرم!! كل شيء هناك تقريباً كان له نصيب من الخير… هكذا شكل الوقف يوماً ما تفاصيل الحياة في تلك المدينة
كان غريبا قد ضل طريقة، ولم تكن الأنوار الخافتة التي تبدو فى الأفق لمكان يقصده، لكنه كان فى حاجة لمأوى يستعيد فيه قواه المنهكة، فقد كانت الطرق آنذاك مهلكة، وكانت المدن التي على الطريق مثل أشيقر هذه بمثابة المأوى الذي يبحث عنه عابرو السبيل، فقد كانت المدينة درة فى فم صحراء نجد القاحلة..
كان الغريب لسوء حاله قد صرف في طريقه كلّ ما لديه فلم يبق لديه إلا راحلته وبضعة أثوابٍ لا تصلح للتجارة أو المقايضة، ولما شكى الرجل إلى أهل المدينة سوء حاله دلوه على خانٍ أوقف ليقيم فيه الغرباء عن المدينة، فعجب الرجل لأمرهم؛ أخانٌ أوقف للغرباء عن المدينة!!..
ولما تجوّل بين أزقة المدينة وعرف أهلها، أدرك أن ثقافة الوقف قد انتشرت بين أهل اشيقر انتشار الطيب في البيوت، فهنا وقف لتفطير الصائمين، وهناك وقف لإصلاح المساعي والجسور، وآخر يوفر لأهل العلم المدارس وتمد لهم يد العون على طلب العلم..
ولم تقف الأفكار الموقوفة عند هذا الحد، بل تسابق أهل الخير بوقف ما يحتاج إليه الناس في حياتهم اليومية من قدر ورحى ومنحاز، بل إن أهل المدينة قد جعلوا أوقافاً لشراء سم الذئاب، وأوقافا يشترى بريعها لَبِنٌ للموتى، وأخرى لإطعام حمام الحرم ومن ذاك أن سيدة من المدينة أوصت بصاعين من القمح كل سنة لإطعام حمام الحرم في موسم الحج..
عندما يصبح الوقف ثقافة فإنه ينشر العافية الاجتماعية في كل دروب ومجالات الحياة لترتقي به النفس الإنسانية إلى مستوىً آخر…
أوقافٌ غاب موقفوها، وثقافةٌ نفتح باب تاريخها على مصراعيه علّنا نعيدُ إحياءها في أمةٍ هي خير أمة أخرجت للناس…